خبر المرأة التاسعة
وقالت التاسعة : ( زوجي رفيع العماد ، طويل النجاد ، عظيم الرماد ، قريب البيت من الناد ) ، وهي أيضاً تمدحه.. ( رفيع العماد ) أي : طويل ، لكن هناك فرق بينه وبين العشنق ، فهذا طويل وهذا طويل ، لكن شتان بين طويل وطويل ، فهذا رجل رفيع العماد ، طويل ، ذو هيئة حسنة ، ( طويل النجاد ) ، النجاد : هو جراب السيف ، فهذا رجل عندما يلبس السيف يكون الجراب الخاص به طويلاً ، وهذا أمر يمتدح به .
خبر المرأة العاشرة
وقالت العاشرة : ( زوجي مالك ، وما مالك ! ) ، أي : اسمه مالك ، ثم قالت : ( وما مالك ! ) أي : هل تعرفون شيئاً عن مالك ؟ ( مالك خير من ذلك ) ، مالك خير من كل ما يخطر ببالك ، وهذا مدح عالٍ ، ( له إبل كثيرات المبارك ، قليلات المسارح ) ؛ لأنه يتوقع أن يأتيه الضيوف ، فلا يجعل الغلام يسرح بكل الإبل ؛ لئلا يأتي الضيف فلا يجد شيئاً يذبحه ، ( له إبل كثيرات المبارك) باركة باستمرار ، ( قليلات المسارح ) قلما يسرحها ، ( إذا سمعن صوت المزهر ) ، وهي الإبل التي في الزريبة ، إذا سمعن صوت المزهر ، ( أيقن أنهن هوالك ) ، يعرفن أن إحداهن ستذبح ، فإذا سمعن هذا الصوت علمن أن الضيف وصل ، والرجل يحيي الضيوف ، ويستقبلهم بالطبل البلدي ، فيعرف الجمل الذي بالداخل أنه سينحر ؛ لأنه قد حل ضيف .
والمرأة الأخيرة هي بيت القصيد ، وهي أم زرع التي سمي الحديث بها
قالت أم زرع : ( زوجي أبو زرع فما أبو زرع ! ) ، هل تعرفون شيئاً عن أبي زرع ؟ . وحيث إننا لا نعرف شيئاً عن أبي زرع، فهي تعرفنا من هو أبو زرع. تقول : ( أناس من حلي أذني ، وملأ من شحم عضدي ) . هذا كله غزل ، ( أناس من حلي أذني ) : النوس يعني الاضطراب والحركة ، ومنه الناس ؛ لأنهم يتحركون ذهاباً وإياباً . ومنه الحديث الذي في البخاري ، قال ابن عمر: ( دخلت على حفصة ونوساتها تنطف) ، النوسات : هي الظفائر ، تنطف : يعني تقطر ماء ، فقد كانت مغتسلة ، وإنما سميت الظفيرة بهذا الاسم لأنها تتحرك إذا حركت المرأة رأسها . ( أناس من حلي أذني ): أي: ألبسها ذهباً في آذانها ، وهي تتحرك، فالذهب يتحرك في آذانها بعدما كانت خالية ، فهي الآن تحمل ذهباً في كل أذن . ( وملأ من شحم عضدي ) : بدأت المرأة بالذهب لأنه أهلك النساء ، الأحمران : الذهب والحرير ، فالنساء عندهن شغف شديد بالذهب ، ( وملأ من شحم عضدي ) ، تريد أن تقول : إنه كريم .. يعني أنه أخذها نحيلة والآن امتلأت . ( وبجحني فبجحت إلي نفسي ) ، يقول لها: يا سيدة الجميع ! يا جميلة ! يا جوهرة ! حتى صدقت ذلك، من كثرة ما بجحها إلى نفسها ، ( فبجحت إلى نفسي ) : أي : فصدقته ، مع أنها قالت : (وجدني في أهل غنيمة بشق) ، يعني : شق جبل ، أي أنها كانت تعيش في حارة بشق ، وفي بعض الروايات الأخرى ( بشق ) : يعني كانت تعيش بشق الأنفس ، فقيرة فقراً مدقعاً تقول : ( وجدني في أهل غنيمة ) ، غنيمة : تصغير غنم ، أي أن حالتهم كانت كلها كرب ، حتى الغنم صار غنيمة ، دلالة على حقارة المال . قالت : ( وجدني في أهل غنيمة بشق ) ، فنقلها نقلة عظيمة ، ( فجعلني في أهل صهيل وأطيط ودائس ومنق ) ، هذه نقلة كبيرة من أهل غنيمة بشق، نقلها إلى ( أهل صهيل ) : أصحاب خيل ، ( وأطيط ) : أصحاب إبل ؛ لأن الخف الخاص بالجمل لين، فعندما يكون محملاً حملاً ثقيلاً تسمع كلمة : أط أط أط، خلال مشيه ، فهذا يسمى أطيطاً ، والإبل كانت من أشرف الأنعام عند العرب، ( ودائس ) أي : ما يداس ، وهذا كناية عن أنهم أناس أهل زرع فلاحون، فإن الزارع بعد حصد الزرع يدوس عليه بأي شيء حتى يخرج منه الحب ، فهو كناية عن أنهم أهل زرع . ( ومنق ) : المنق : هو المنخل ، فالعرب ما كانوا يعرفون المنخل إنما كان يعرفه أهل الترف ، تقول عائشة - رضي الله عنها - : ( ما رأى النبي صلى الله عليه وسلم منخلاً بعينيه ) ، فقال عروة : ( فكيف كنتم تأكلون يا خالة ؟ فقالت : كنا نذريه في الهواء ) ، فالتبن يطير في الهواء، والذي يبقى مع الشعير يطحنونه كله ويأكلونه، والنبي عليه الصلاة والسلام كما قالت عائشة : ( مات ولم يشبع من خبز الشعير ) ، ليس من خبز القمح ، فإن القمح هذا لم يأكلوه أبداً! تقول : وما أكل خبزاً مرققاً ) . فكلمة ( منق ) فيها دلالة على الترف ، فعندهم من كل المال ، فهم أغنياء ، عندهم خيل وإبل وزرع ، وعندما يأكلون عندهم منخل ؛ لأنهم كانوا لا يفصلون التبن عن الغلة ، فيطحنونها دقيقاً يسر الناظرين . ( فعنده أقول فلا أقبح ) تقول : مهما قلت فلا أحد يجرؤ أن يقول لي : قبحك الله .. فقد كان عزها من عز الرجل ومكانتها من مكانته، فلا يستطيع أحد أن يرد عليها بكلمة . ( وأرقد فأتصبح ) : تنام حتى وقت الضحى، وهذا يدل على أنه كان معها خدام ؛ إذ لو كانت تعمل بنفسها لما كانت تنام بعد صلاة الفجر ، وهذا كسائر نسائنا ؛ لأنه بعد صلاة الفجر يريد الأولاد أن يذهبوا إلى المدارس ، وتريد أن تصنع الطعام لهم ، والرجل سيخرج إلى العمل ، فتعمل باستمرار ، فإذا كانت تنام حتى تشرق الشمس وترسل سياطها إلى الأرض وهي نائمة ، فمعنى ذلك أن هناك خدماً يكفونها المؤنة . ( وأشرب فأتقمح ) : وفي رواية البخاري : ( فأتقنح ) ، بالنون ، وهناك فرق بين اللفظين ، أما لفظ ( فأتقمح ) فإنه يقال : بعير قامح ، أي إذا ورد الماء وشرب ثم رفع رأسه زهداً في الشرب بعد أن يروى، فهي بعدما تشرب العصير، تترك نصف الكأس؛ لأنها قد ارتوت، وأما ( أتقنح ) أي : تشرب وتأكل تغصباً ، فتأكل حتى تشبع ، فيقال لها : كلي، فتتغصب الزيادة ، وهذا لا يكون إلا إذا كان هناك دلال وحب .
فقولها : فأتقمح أو أتقنح فيه دلالة على أنها تترك الأكل والشرب زهداً فيه لكثرته ، فجمعت بين التبجيح والتعظيم الأدبي وبين الكرم.