علم التوحيد أجل العلوم وأشرفها فهو العلم بالله تعالى وأسمائه وصفاته وحقوقه على عباده ،والتوحيد هو ما جاءت به الرسل ودعت إليه، قال الله تعالى (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء:25).
فشأن التوحيد عظيم والعناية به أمر لازم على المسلم ، وإن من أبوابه الكبيرة أركان الإيمان أو ما يسمى أصول الإيمان أو أسس العقيدة الإسلامية ، وهي ستة أركان :
الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره ، وقد دل عليها كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
أتت هذه الأركان مفصلة في كتاب الله في قوله عز وجل (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ )(البقرة: 177) وهذه الآية ذكرت خمسة من الأركان وهي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وأما الركن السادس وهو الإيمان بالقدر فدليله قول الله تعالى(إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ، وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) (القمر:49- 50)
وجاءت هذه الأركان أيضاً مفصلة كذلك في سنة النبي صلى الله عليه وسلم ففي حديث جبريل الطويل – المشهور- بيان لهذه الأصول فقد سأل جبريل عليه السلام نبينا محمد صلى الله عليه وسلم عن الإيمان ، فقال صلى الله عليه وسلم ( الإيمان أن تؤمن بالله ملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره ) أخرجه الإمام مسلم وغيره .
ثم إنه مما تقدم يتبين أن الإيمان بالملائكة يأتي ثانياً بعد الإيمان بالله وقبل الإيمان بالكتب والإيمان بالرسل ،ولعل الحكمة في ذلك والله أعلم أن الملك يرسله الله بالكتاب للرسول وهذا ماقرره الإمام ابن حجر رحمه الله حيث قال - تعليلاً لذلك- : ( وقدم الملائكة على الكتب والرسل نظراً للترتيب الواقع لأنه سبحانه وتعالى أرسل الملك بالكتاب إلى الرسول).
فالإيمان بالملائكة أحد أصول الإيمان وأركانه وينبنى على الإيمان بالملائكة كذلك الإيمان بالكتب والرسل ، جاء في تفسيرصفوة الآثار ما نصه ( فالإيمان بالملائكة أصل للإيمان بالرسل ومن اعتراه شيء من الشك في أصلهم فلا يستبعد منه إنكار الوحي كما حصل فعلاً من ملاحدة هذا الزمان).
والملائكة عالم غيبي خلقه الله سبحانه وتعالى وعددهم كبير جداً ، يكفي في بيان كثرتهم ماثبت في حديث الإسراء من أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما رأى البيت المعمور سأل جبريل عليه السلام عنه فقال هذا البيت المعمور يصلي فيه كل يوم سبعون ألف ملك إذا خرجوا لم يعودوا إليه آخر ما عليهم
فانظروا يارعاكم الله إلى العدد العظيم الكبير للملائكة إذ في اليوم الواحد يدخل سبعون ألفاً ولايعودون ، فسبحان خالقهم جل جلاله ،وتبارك اسمه ، وتعالى سلطانه ، ولاإله غيره .
و الإيمان بالملائكة يتضمن أربعة أمور كما قرر أهل العلم /
أولها/ الإيمان بوجودهم ، فقد أخبرنا عنهم ربهم سبحانه وتعالى في كتابه الكريم وسماهم الملائكة في أكثر من ثلاثين آية من كتاب الله ، ومن ذلك قوله تعالى (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً )(البقرة / 30 ) ، وقوله جل ذكره (الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً ) ( فاطر / 1) ، وقوله سبحانه وبحمده {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ } ( الحج /75 )
وأخبر عن وجودهم أيضاً نبيه محمد صلى الله عليه وسلم في غير ما حديث ، ومن ذلك مارواه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( فضل صلاة الجميع على صلاة الواحد خمس وعشرون درجة وتجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الصبح يقول أبو هريرة اقرؤوا إن شئتم ( وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا ) ) ، ففي هذا الحديث وأمثاله يتحدث النبي صلى الله عليه وسلم عن مخلوقات محددة اسمها الملائكة .
وقد جاءت عبارات السلف رحمهم الله لتؤكد هذا المعنى حتى ذهب الإمام ابن القيم رحمه الله أنه ( لا تخلو سورة من سور القرآن عن ذكر الملائكة تصريحاً أو تلميحاً أو إشارة ) .
ثانياً/ الإيمان بمن علمنا اسمه منهم بما نص عليه القرآن الكريم أو صحت به السنة النبوية كجبريل وميكائيل وإسرافيل ومالك خازن النار ، والإيمان إجمالاً بمن لم نعلم اسمه كملك الموت وملك الجبال و الملكان الموكلان بسؤال الميت في قبره حيث أن الأحاديث الواردة في أسمائهم لاترتقي إلا درجة القبول عند المحدثين فيما ذكر غير واحد من أهل العلم ، وممن لانعرف اسمائهم حملة العرش من الملائكة ، وعلى هذا نؤمن بأن لله تعالى ملائكة نعلم أعمالهم ولانعلم أسماءهم ، والذين صح بأسمائهم الخبر عن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم قليل جداً بالنسبة إلى عدد الملائكة .
ثالثاً/ الإيمان بما علمنا من صفاتهم ، كعلمنا أنهم مخلوقين من نور ففي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( خلقت الملائكة من نور وخلق الجان من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم ).
ومن صفاتهم أيضاً الحياء كما قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام مسلم ( ألا استحي ممن تستحي منه الملائكة ) قال الإمام النووي – تعليقاً على هذا الحديث - ( وأن الحياء صفة جميلة من صفات الملائكة ).
ومن صفاتهم أيضاً أن لهم أجنحة يطيرون بها كما قال الله تعالى {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } ( فاطر / 1 )
رابعاً/ الإيمان بما علمنا من أعمالهم ، ولقد جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة جملة من أعمال الملائكة من ذلك على سبيل المثال لا الحصر – وبعض هذه الأعمال متعلق بجميع الملائكة وبعضها مخصص ببعضهم - ..
1. توحيد الله تعالى والشهادة على ذلك ، قال جل ذكره {شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }آل عمران18
وفي هذه الآية تكريم للملائكة ولأهل العلم بقرن شهادتهم بشهادة الله سبحانه وتعالى .
2. تسبيح الله تعالى من أعمال الملائكة ، قال سبحانه وتعالى {وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ }الرعد13
3. ومن أعمال بعض الملائكة تهنئة المؤمنين بدخول الجنة ، قال تعالى {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ }الرعد23 .
قال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسيره : ( أي وتدخل عليهم الملائكة من ها هنا ومن ها هنا للتهنئة بدخول الجنة فعند دخولهم إياها تفد عليهم الملائكة مسلمين مهنئين لهم بما حصل لهم من الله من التقريب والإنعام والإقامة في دار السلام في جوار الصديقين والأنبياء والرسل الكرام .
4. قبض الأرواح بإذن الله من أعمال بعض الملائكة، قال عز وجل {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }النحل32 .
وقال تعالى {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }النحل28 .
وهنا تنبيه هام نص عليه العلامة الشنقيطي رحمه في تفسيره فقال :
أسند هنا جل وعلا التوفي للملائكة في قوله تتوفاهم الملائكة وأسنده في ( السجدة ) لملك الموت في قوله ( قل يتوفاكم ملك الموت ) وأسنده في ( الزمر ) إلى نفسه جل وعلا في قوله ( الله يتوفى الا نفس حين موتها ) وقد بينا في كتابنا ( دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ) في سورة ( السجدة ) أنه لا معارضة بين الآيات المذكورة فإسناده التوفي لنفسه لأنه لا يموت أحد إلا بمشيئته تعالى كما قال ( وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا ) وأسنده لملك الموت لأنه هو المأمور بقبض الأرواح وأسنده إلى الملائكة لأن لملك الموت أعوانا من الملائكة ينزعون الروح من الجسد إلى الحلقوم فيأخذها ملك الموت كما قاله بعض العلماء والعلم عند الله تعالى .
5. ومن أعمالهم تبشير المؤمنين قال الله تعالى {لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ }الأنبياء103 ومثله قوله تعالى ( إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التى كنتم توعدون ) وقوله ( وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين )
6. ومن أعمالهم الرسالة والوحي قال جل ذكره {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ } الحج75 .
7. الإستغفار للمؤمنين عمل من أعمال الملائكة، قال سبحانه {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ }الشورى5.
8. ومن أجل أعمالهم أن منهم حملة لعرش الرحمن سبحانه وتعالى ، قال الله تعالى / {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ }الحاقة17
9. ومن الملائكة خزنة للنار ، قال الله تعالى {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً }المدثر31
10. وفي ليلة القدر تتنزل الملائكة قال الله تعالى {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ }القدر4 .
11. ومن الملائكة من هو مكلف بحراسة المدينة النبوية ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم على أنقاب المدينة ملائكة لا يدخلها الطاعون ولا الدجال .
12. وهناك ملائكة رحمة وملائكة عذاب ، ففي حديث الذي قتل تسعة وتسعين نفساً المشهور المخرج في صحيح البخاري ( فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ) .
13. وهناك من الملائكة صنف يطوف في الطرق مجالس الذكر قال صلى الله عليه وسلم ( إن لله ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر فإذا وجدوا قوما يذكرون الله تنادوا هلموا إلى حاجتكم ... ) الحديث رواه البخاري
__________________